فصل: تفسير الآيات (201- 202):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآيات (191- 193):

{أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)}
أجريت الأصنام مجرى أولي العلم في قوله: {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} بناء على اعتقادهم فيها وتسميتهم إياها آلهة. والمعنى: أيشركون ما لا يقدر على خلق شيء كما يخلق الله، وهم يخلقون؟ لأن الله عز وجل خالقهم. أو لا يقدر على اختلاق شيء، لأنه جماد، وهم يخلقون؛ لأن عبدتهم يختلقونهم، فهم أعجز من عبدتهم {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ} لعبدتهم {نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} فيدفعون عنها ما يعتريها من الحوادث، بل عبدتهم هم الذي يدفعون عنهم ويحامون عليهم {وَإِن تَدْعُوهُمْ} وإن تدعوا هذه الأصنام {إِلَى الهدى} أي إلى ما هو هدى ورشاد، وإلى أن يهدوكم. والمعنى: وإن تطلبوا منهم كما تطلبون من الله الخير والهدى، لا يتبعوكم إلى مرادكم وطلبتكم، ولا يجيبوكم كما يجيبكم الله. ويدل عليه قوله: {فادعوهم فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صادقين} {سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ} أم صمتم عن دعائهم، في أنه لا فلاح معهم.
فإن قلت: هلا قيل: أم صمتم؟ ولم وضعت الجملة الإسمية موضع الفعلية؟ قلت: لأنهم كانوا إذا حزبهم أمر دعوا الله دون أصنامهم، كقوله: {وإذا مس الناس ضرّ} [الروم: 33] فكانت حالهم المستمرة أن يكونوا صامتين عن دعوتهم، فقيل: إن دعوتموهم لم تفترق الحال بين إحداثكم دعاءهم، وبين ما أنتم عليه من عادة صمتكم عن دعائهم.

.تفسير الآيات (194- 195):

{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195)}
{إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} أي تعبدونهم وتسمونهم آلهة من دون الله {عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} وقوله: {عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} استهزاء بهم، أي قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء فإن ثبت ذلك فهم عباد أمثالكم لا تفاضل بينكم. ثم أبطل أن يكونوا عباداً أمثالهم فقال: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا} وقيل: عباد أمثالكم مملوكون أمثالكم.
وقرأ سعيد بن جبير: {إن الذين تدعون من دون الله عباداً أمثالكم} بتخفيف إن ونصب عباداً أمثالكم، والمعنى: ما الذين تدعون من دون الله عباداً أمثالكم، على إعمال (إن) النافية عمل (ما) الحجازية {قُلِ ادعوا شُرَكَاءكُمْ} واستعينوا بهم في عداوتي {ثُمَّ كِيدُونِ} جميعاً أنتم وشركاؤكم {فَلاَ تُنظِرُونِ} فإني لا أبالي بكم، ولا يقول هذا إلا واثق بعصمة الله، وكانوا قد خوّفوه آلهتهم فأمر أن يخاطبهم بذلك، كما قال قوم هود له: {إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ ءالِهَتِنَا بِسُوء} [هود: 54] قال لهم: {إِنّى بَرِيء مّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ} [هود: 55].

.تفسير الآيات (196- 197):

{إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197)}
{إِنَّ وَلِيّىَ الله} أي ناصري عليكم الله {الذى نَزَّلَ الكتاب} الذي أوحى إلي كتابه وأعزني برسالته {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين} ومن عادته أن ينصر الصالحين من عباده وأنبيائه ولا يخذلهم.

.تفسير الآية رقم (198):

{وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)}
{يَنظُرُونَ إِلَيْكَ} يشبهون الناظرين إليك، لأنهم صوّروا أصنامهم بصورة من قلب حدقته إلى الشيء ينظر إليه {وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} وهم لا يدركون المرئيّ.

.تفسير الآية رقم (199):

{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)}
{العفو} ضد الجهد: أي خذ ما عفا لك من أفعال الناس وأخلاقهم وما أتى منهم، وتسهل من غير كلفة، ولا تداقهم، ولا تطلب منهم الجهد وما يشق عليهم حتى لا ينفروا، كقوله صلى الله عليه وسلم: «يسروا ولا تعسروا» قال:
خذِي الْعَفْوَ مِني تَسْتَدِيمِي مَوَدَّتِي ** وَلاَ تَنْطِقِي فِي سَوْرَتِي حِينَ أَغْضَبُ

وقيل: خذ الفضل وما تسهل من صدقاتهم، وذلك قبل نزول آية الزكاة، فلما نزلت أمر أن يأخذهم بها طوعاً أو كرهاً. والعرف: المعروف والجميل من الأفعال {وَأَعْرِض عَنِ الجاهلين} ولا تكافئ السفهاء بمثل سفههم، ولا تمارهم، واحلم عنهم، وأغض على ما يسوؤك منهم. وقيل: لما نزلت الآية سأل جبريل (ما هذا) فقال: لا أدري حتى أسأل العالم، ثم رجع فقال: «يا محمد إن ربك أمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك».
وعن جعفر الصادق: أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام بمكارم الأخلاق، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها.

.تفسير الآية رقم (200):

{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)}
{وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ} وإما ينخسنّك منه نخس، بأن يحملك بوسوسته على خلاف ما أمرت به {فاستعذ بالله} ولا تطعه. النزغ والنسغ: الغرز والنخس، كأنه ينخس الناس حين يغريهم على المعاصي. وجعل النزغ نازغاً، كما قيل جدّ جدّه.
وروي: أنها لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يا رب والغضب فنزل {وإما ينزعنَّك من الشيطان نزع} ويجوز أن يراد بنزغ الشيطان اعتراء الغضب، كقول أبي بكر رضي الله عنه: إنّ لي شيطاناً يعتريني.

.تفسير الآيات (201- 202):

{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)}
{طائف مِنَ الشيطان} لمة منه مصدر، من قولهم: طاف به الخيال يطيف طيفاً قال:
أنَّي ألَمَّ بِكَ الْخَيَالُ يِطيفُ

أو هو تخفيف طيف فيعل، من طاف يطيف كلين أو من طاف يطوف كهين. وقرئ: {طائف}، وهو يحتمل الأمرين أيضاً. وهذا تأكيد وتقرير لما تقدم من وجوب الاستعاذة بالله عند نزغ الشيطان، وأنّ المتقين هذه عادتهم: إذا أصابهم أدنى نزغ من الشيطان وإلمام بوسوسته {تَذَكَّرُواْ} ما أمر الله به ونهى عنه، فأبصروا السداد ودفعوا ما وسوس به إليهم ولم يتبعوه أنفسهم. وأما إخوان الشياطين الذين ليسوا بمتقين، فإن الشياطين يمدونهم في الغيِّ، أي يكونون مدداً لهم فيه ويعضدونهم. وقرئ: {يُمدّونهم} من الإِمداد. ويمادّونهم، بمعنى يعاونونهم {ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ} ثم لا يمسكون عن إغوائهم حتى يصروا ولا يرجعوا. قوله: {وإخوانهم يَمُدُّونَهُمْ} كقوله:
قَوْم إذَا الْخَيْلُ جَالُوا في كَوَاثِبِهَا

في أنّ الخبر جار على ما هو له. ويجوز أن يراد بالإخوان الشياطين، ويرجع الضمير المتعلق به إلى الجاهلين، فيكون الخبر جارياً على ما هو له، والأوّل أوجه، لأن إخوانهم في مقابلة الذين اتقوا.
فإن قلت: لم جمع الضمير في إخوانهم والشيطان مفرد؟ قلت: المراد به الجنس، كقوله: {أَوْلِيَاؤُهُمُ الطاغوت} [البقرة: 257].

.تفسير الآية رقم (203):

{وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآَيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)}
اجتبى الشيء، بمعنى جباه لنفسه: أي جمعه، كقولك: اجتمعه، أو جبي إليه فاجتباه: أي أخذه، كقولك: جليت إليه العروس فاجتلاها، ومعنى {لَوْلاَ اجتبيتها} هلا اجتمعتها، افتعالا من عند نفسك؛ لأنهم كانوا يقولون: {إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ} [سبأ: 43] أو هلا أخذتها منزّلة عليك مقترحة؟ {قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحِى إِلَىَّ مّن رَّبّى} ولست بمفتعل للآيات، أو لست بمقترح لها {هذا بصائر} هذا القرآن بصائر {مّن رَّبّكُمْ} أي حجج بينة يعود المؤمنون بها بصراء بعد العمى، أو هو بمنزلة بصائر القلوب.

.تفسير الآية رقم (204):

{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)}
{وَإِذَا قرئ القرءان فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ} ظاهره وجوب الاستماع والإنصات وقت قراءة القرآن في صلاة وغير صلاة. وقيل: كانوا يتكلمون في الصلاة فنزلت، ثم صار سنة في غير الصلاة أن ينصت القوم إذا كانوا في مجلس يقرأ فيه القرآن.
وقيل معناه: وإذا تلا عليكم الرسول القرآن عند نزوله فاستمعوا له. وقيل: معنى فاستمعوا له: فاعملوا بما فيه ولا تجاوزوه.

.تفسير الآية رقم (205):

{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)}
{واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ} هو عام في الأذكار من قراءة القرآن والدعاء والتسبيح والتهليل وغير ذلك {تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} متضرعاً وخائفاً {وَدُونَ الجهر} ومتكلماً كلاماً دون الجهر، لأنّ الإخفاء أدخل في الإخلاص وأقرب إلى حسن التفكر {بالغدو والأصال} لفضل هذين الوقتين. أو أراد الدوام. ومعنى بالغدوّ: بأوقات الغدو، وهي الغدوات. وقرئ: {والإيصال}، من آصل إذا دخل في الأصيل، كأقصر وأعتم وهو مطابق للغدوّ {وَلاَ تَكُنْ مّنَ الغافلين} من الذين يغفلون عن ذكر الله ويلهون عنه.

.تفسير الآية رقم (206):

{إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)}
{إِنَّ الذين عِندَ رَبّكَ} هم الملائكة صلوات الله عليهم. ومعنى {عِندَ} دنوّ الزلفة، والقرب من رحمة الله تعالى وفضله، لتوفرهم على طاعته وابتغاء مرضاته {وَلَهُ يَسْجُدُونَ} ويختصونه بالعبادة لا يشركون به غيره، وهو تعريض بمن سواهم من المكلفين.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الأعراف جعل الله يوم القيامة بينه وبين إبليس ستراً، وكان آدم شفيعاً له يوم القيامة».

.سورة الأنفال:

.تفسير الآيات (1- 4):

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)}
النفل: الغنيمة، لأنها من فضل الله تعالى وعطائه. قال لبيد:
إنَّ تَقْوَى رَبِّنَا خَيْرُ نَفَلْ

والنفل ما ينفله الغازي، أي يعطاه زائداً على سهمه من المغنم، وهو أن يقول الإمام تحريضاً على البلاء في الحرب: من قتل قتيلاً فله سلبه. أو قال لسرية: ما أصبتم فهو لكم، أو فلكم نصفه أو ربعه. ولا يخمس النفل، ويلزم الإمام الوفاء بما وعد منه. وعند الشافعي رحمه الله في أحد قوليه: لا يلزم. ولقد وقع الاختلاف بين المسلمين في غنائم بدر، وفي قسمتها، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تقسم، ولمن الحكم في قسمتها؟ أللمهاجرين أم للأنصار؟ أم لهم جميعاً؟ فقيل له: قل لهم: هي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الحاكم فيها خاصة يحكم فيها ما يشاء، ليس لأحد غيره فيها حكم. وقيل: شرط لمن كان له بلاء في ذلك اليوم أن ينفله، فتسارع شبانهم حتى قتلوا سبعين وأسروا سبعين، فلما يسر الله لهم الفتح اختلفوا فيما بينهم وتنازعوا، فقال الشبان: نحن المقاتلون، وقال الشيوخ والوجوه الذين كانوا عند الرايات: كنا ردءاً لكم وفئة تنحازون إليها إن انهزمتم وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: المغنم قليل والناس كثير: وإن تعط هؤلاء ما شرطت لهم حرمت أصحابك. فنزلت.
وعن سعد بن أبي وقاص: قتل أخي عمير يوم بدر، فقتلت به سعيد بن العاص وأخذت سيفه فأعجبني، فجئت به إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم فقلت: إنّ الله قد شفى صدري من المشركين، فهب لي هذا السيف فقال: ليس هذا لي ولا لك، اطرحه في القَبَضِ فطرحته وبي ما لا يعلمه إلا الله تعالى من قتل أخي وأخذ سلبي، فما جاوزت إلا قليلاً حتى جاءني رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وقد أنزلت سورة الأنفال، فقال: يا سعد، إنك سألتني السيف وليس لي، وإنه قد صار لي فاذهب فخذه وعن عبادة بن الصامت: نزلت فينا يا معشر أصحاب بدر حين اختلفنا في النفل وساءت فيه اخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا فجعله لرسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فقسمه بين المسلمين على السواء، وكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله وإصلاح ذات البين.
وقرأ ابن محيصن: {يسألونك علنفال} بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام، وإدغام نون عن في اللام: وقرأ ابن مسعود: {يسألونك الأنفال} أي يسألك الشبان ما شرطت لهم من الأنفال.
فإن قلت: ما معنى الجمع بين ذكر الله والرسول في قوله: {قُلِ الانفال لِلَّهِ والرسول}؟ قلت: معناه أنّ حكمها مختص بالله ورسوله، يأمر الله بقسمتها على ما تقتضيه حكمته ويمتثل الرسول أمر الله فيها، وليس الأمر في قسمتها مفوّضاً إلى رأي أحد، والمراد: أنّ الذي اقتضته حكمة الله وأمر به رسوله أن يواسي المقاتلة المشروط لهم التنفيل الشيوخ الذين كانوا عند الرايات، فيقاسموهم على السوية ولا يستأثروا بما شرط لهم، فإنهم إن فعلوا لم يؤمن أن يقدح ذلك فيما بين المسلمين من التحاب والتصافي {فاتقوا الله} في الاختلاف والتخاصم، وكونوا متحدين متآخين في الله {وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} وتآسوا وتساعدوا فيما رزقكم الله وتفضل به عليكم.
وعن عطاء: كان الاصلاح بينهم أن دعاهم وقال: اقسموا غنائمكم بالعدل، فقالوا: قد أكلنا وأنفقنا، فقال: ليردّ بعضكم على بعض.
فإن قلت: ما حقيقة قوله: {ذَاتَ بِيْنِكُمْ}؟ قلت: أحوال بينكم، يعني ما بينكم من الأحوال، حتى تكون أحوال ألفة ومحبة واتفاق، كقوله: {بِذَاتِ الصدور} [آل عمران: 199] وهي مضمراتها. لما كانت الأحوال ملابسة للبين قيل لها: ذات البين، كقولهم: اسقني ذا إنائك، يريدون ما في الإناء من الشراب. وقد جعل التقوى وإصلاح ذات البين وطاعة الله ورسوله من لوازم الإيمان وموجباته، ليعلمهم أنّ كمال الإيمان موقوف على التوفر عليها. ومعنى قوله: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} إن كنتم كاملي الإيمان. واللام في قوله: {إِنَّمَا المؤمنون} إشارة إليهم. أي إنما الكاملو الإيمان من صفتهم كيت وكيت والدليل عليه قوله: {أُوْلئِكَ هُمُ المؤمنون حَقّاً}. {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} فزعت.
وعن أمّ الدرداء: الوجل في القلب كاحتراق السعفة، أما تجد له قشعرير؟ قال: بلى، قالت: فادع الله فإنّ الدعاء يذهبه. يعني فزعت لذكره استعظاماً له، وتهيباً من جلاله وعزّة سلطانه وبطشه بالعصاة وعقابه، وهذا الذكر خلاف الذكر في قوله: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله} [الزمر: 23] لأن ذلك ذكر رحمته ورأفته وثوابه. وقيل: هو الرجل يريد أن يظلم أو يهم بمعصية فيقال له: اتق الله فينزع. وقرئ {وجلت}، بالفتح، وهي لغة نحو (وبق) في (وبق)، وفي قراءة عبد الله: {فَرِقَتْ} {زَادَتْهُمْ إيمانا} ازدادوا بها يقيناً وطمأنينة في نفس. لأن تظاهر الأدلة أقوى للمدلول عليه وأثبت لقدمه، وقد حمل على زيادة العمل.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (عن النبي صلى الله عليه وسلم):
«الإيمان سبع وسبعون شعبة، أعلاها: شهادة أن لا إله إلا الله. وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» وعن عمر بن العزيز رضي الله عنه: إن للإيمان سنناً وفرائض وشرائع، فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان {وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} ولا يفوّضون أمورهم إلى غير ربهم، لا يخشون ولا يرجون إلا إياه. جمع بين أعمال القلوب من الخشية والإخلاص والتوكل، وبين أعمال الجوارح من الصلاة والصدقة {حَقّاً} صفة للمصدر المحذوف، أي أولئك هم المؤمنون إيماناً حقاً، أو هو مصدر مؤكد للجملة التي هي {أُوْلئِكَ هُمُ المؤمنون} كقولك: هو عبد الله حقاً، أي حق ذلك حقاً.
وعن الحسن أنّ رجلاً سأله: أمؤمن أنت؟ قال: الإيمان إيمانان، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب، فأنا مؤمن. وإن كنت تسألني عن قوله: {إِنَّمَا المؤمنون} فوالله لا أدري أمنهم أنا أم لا.
وعن الثوري: من زعم أنه مؤمن بالله حقاً، ثم لم يشهد أنه من أهل الجنة، فقد آمن بنصف الآية. وهذا إلزام منه، يعني كما لا يقطع بأنه من أهل ثواب المؤمنين حقاً، فلا يقطع بأنه مؤمن حقاً، وبهذا تعلق من يستثني في الإيمان. وكان أبو حنيفة رضي الله عنه ممن لا يستثني فيه. وحكي عنه أنه قال لقتادة: لم تستثنى في إيمانك؟ قال: اتباعاً لإبراهيم عليه السلام في قوله: {والذى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدين} [الشعراء: 82] فقال له: هلا اقتديت به في قوله: {أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى} [البقرة: 260] {درجات} شرف وكرامة وعلو منزلة {وَمَغْفِرَةٌ} وتجاوز لسيئاتهم {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} نعيم الجنة. يعني لهم منافع حسنة دائمة على سبيل التعظيم، وهذا معنى الثواب.